حوار مع محمد برادة

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
20/07/2010 06:00 AM
GMT



الكاتب المغربي محمد برّادة يكتب القصة والرواية، كما يكتب المقالة الأدبية والبحث النقدي، وله في هذه المجالات جميعها العديد من الدراسات وبعض الكتب ذات الأثر اللافت في المشهد الثقافي والأدبي والنقدي العربي، ككتابه الهام حول محمد مندور وكتابه النقدي حول الرواية العربية. لبرّادة المولود بالعاصمة المغربية الرباط العديد من النتاج على صعيد الترجمة أيضاً لكتب أدبية ونظرية ونقدية أساسية لكل من رولان بارت وميخائيل باختين وجان جينيه ولوكليزيو وغيرهم، كما عرفت بعض نصوص برادة نفسه طريقها الى الترجمة الى بعض اللغات الأجنبية. من أعماله الروائية «لعبة النسيان» و«الضوء الهارب» و«صيف لن يتكرر» و«ورد ورماد» وهي مجموعة رسائل متبادلة بينه وبين الكاتب الراحل محمد شكري. جديده عن «دار الآداب» اللبنانية: «حيوات متجاورة» محور حديثنا هنا.


للجسد في إصدارك الجديد»حيوات متجاورة» عن»دار الآداب اللبنانية» دور حيوي في إغناء الذات الساردة، ومباهجه لا تستدعي الإحساس بالذنب، بل تساهم في رغد العيش والوفرة المادية لصاحبه. لم نقع على شخصيات ذوات أرواح فاضلة في الرواية، بل فيها ذلك التوظيف للجسد والجنس بوصفهما أساساً، وخلاصاً من العوز والبؤس. ما رأيك؟
ـ الجسـد يضـطـلع بدور أساس في توازننا الحياتي، ولا يليق به أن يكون موضعا للإحساس بالذنب لأن ما ينقصنا هو ما يحرضنا على الاستمرار في الحياة، والاستمتاع بها وسط مناخ أصبح معاديا للفرح واللذة... وعلاقة شخوص «حيوات متجاورة» بأجسادهم لا تقوم على التمييـز بين أرواح فاضلة تسكن أجسادا محتشمة وأخرى على النقيض، بل هي تعيش تجربة الجسد و«الروح» معا على ضوء الشروط الاجتماعية والمادية. وأنا أعتـبـر الجسد، في عمومه، أكثـر دقة في التعبير عن وضعية الإنسان لأنه يلخص الصراع بين العناصر النفسية - الفكرية، والغرائـز الشهوية - النــزوية ؛ وقبل ذلك يترجم المـقتضيات المحـددة لـ «سياسة» الجسد بالنسبة لكل واحد، بـتــَـرابـُطٍ مع وضعه المادي والاعتباري، وماضيه الطفولي وعلاقته بالجسد الآخـر. بعبارة ثانية، مـا مـِـنْ أحد يمكنه الزعـمُ أنه يختار مـسار جسده ومصيره بكامل الحـرية. لا أظن أن التي أو الذي يـحـتـرف العهارة يفعل ذلك مع وجود إمكانات مهـنيـة أخرى مـُـتيـسـرة.
في»حيوات»، هناك مع ذلك، فوارق وتلوينات تطبـع علاقة كل شخصية روائية بجسدها: نعيمة آيتْ لـهـْـنـا، تستجيب لمسارها الحياتي وما كانت تتأثـر به من خطاب تنـقله الثقافة الفرنسية عن أهمية الجمال والجسد وضرورة اجـتـنـاء اللذة بأقصى قدر، والتـنقــّـل بين العشاق عن «قناعة» لأن ذلك ما يعطي الحياة نكـهـتـهـا. لذلك نجد نعيمة ترفض الإقرار بأنها تتاجـر بجسدها في شكل مـُغـلـّـف، وتزعم أنها تحقق رغبة جسدها متفاعلة مع سلوك بعض بطلات الروايات التي كانت مهووسة بقراءتها... تـبدّلُ شروطها المادية جعلها تكتشف الوجه الآخـر لجسدها ولجسد الأخريات، خاصة بعد أن دخلت السجن. في المقابل، نجد شخصية «الوارثي» الذي يمكن أن نقول انه كان يتوفـر على علاقة «فاضلة» بجسده في مطلع شبابه، لكنه عندما بلغ أرذل العـمـر اكتشف أن جسده لم يعد يستجيب للـّـذة المـُـقنـنـة، الشرعية فاندفع إلى تكوين جماعة «استعادة الحياة» ليشـحذ شهـوته، ويتدارك ما فاته وهو مـُـستظـل بالفضيلة؛ ولا شك في أن طيف الموت زعـزع كل شيء بما فيه إيمانه الديني، لأن آخر كلمة يقولها: «من دون أن أتطلع إلى فــجـْـر أو قيامة»... ونجد الأستاذ سميح يكتشف جسده من خلال تجارب وأدبيات تـُـحيل على «الليبرتناج» في مفهومه الأوروبي الإباحي، المتحرر من جميع المواضعات.
بعبارة إجمالية، كل جسد يعيش تجربته ضمن مواقف تحدد سلوكه الجنسي والعاطفي، مع لجوء إلى خطاب يـُـؤسـطـِـر الموقف ويـُـبـرره. وهذا تناقض بشــريّ، حيوي، لا يخضع لإسقاطات الأدلوجــة أو مشيئة الإرادة «الفاضلة» .

أستعير سؤالك الذي استوقفني في تمهيدك لروايتك، وأسألك: أين يوجد الروائي حين يلاحق أزمنة متكلمين وفاعلين داخل فضاء روايته؟ واين يوجد السارد على ما تُسّميه؟
ـ يـوجد الروائي موزعا بين جميع الشخوص والفضاءات والأزمنة، ويتخـذ من المـحكـيات والأحداث مادّة لـيـُـلـمـلـم عناصر رؤية تسـبك ما هو مـتـضـادّ، متعارض، مـُتـنـافـر في الحياة. والوسيلة التي يعتمدها هي التمثيـل la représentation وليس المحاكاة، أي أن الروائي يـنغـمـر وسط التجربة المـُـتخيـّلة ليضـطـلع بدور «المُـرتـّـب»، المحرك لاحتمالات حياتية تتعدى المألوف. حيـنـَـها، يكتشف استحالة فـرض إرادته على مخلوقات لا يمكنها أن تظل حـية على الورق إلا إذا صـانـتْ حريتها. ومعنى ذلك أن الروائي لا يمكن أن يتــقمص دور الإله ذي المنطق المطلق، الحاسـم. ويمكن للروائي أن يتواطـأ مع بعض الشخصيات، لكنه لا يستطيع أن يـتـحـيـز لوجهة نظــر ضد أخـرى، لأنه ليس قاضيا يصدر الأحكام. هو أشبه بـ «مـُلقـن» من وراء ستار يوزع الكلام ويهمس بآرائه من دون أن يصادر الآخرين، المخالفين لوجهة نظره.
أما السارد فيوجد في تلك المسافة التي تفصل بين الروائي ومادته الـخــامّ؛ إنه مـَـنْ يعيد تنسيـق ما تجمـّـع لدى الروائي بدعوى «الموضوعية» والوضوح، لكنه يستطيع أن «يسـتـولي» على المادة الخامّ ليحرفها نحو وجهة أخرى؛ من ثـمّ سـعـْـي الروائيين المحدثين إلى التخلص من السارد العليم المطلق السلطة، واللجوء إلى تعــديــد الأصوات والمنظورات السردية من أجل إبـعـاده عن الإيهام بمطابقة الواقع. وكي نتـبـيـّـن مقاصد التعدد السردي في «حيوات متجاورة»، لا بأس أن نتذكر ما قاله سارتر من أن كل تـقـنـيّـة روائية تـُحـيـلنا على ميتافيزيقا الروائيّ، أي الطابع الجدلي بينهما الذي يضيء الدلالة القائمة أصلا في التقنية. وأظـن أن كلمة «التـجــاوُر» الماثلة في العنوان، قد تضيء العلاقة بين تعدد اللغات والساردين وبين ميتافيزيقا الوجود داخل مجتمع رواية «حـيوات» الذي يتكـوّن من عوالم متجاورة أكـثـر منها مـُتـحـاورة.

الجسد والروح
أيضاً، وعطفاً على سؤالي الاول، وجدت كقارئة ذلك النوع من «المباركة» إذا صحّ التعبير، التي يمنحها الراوي لشخصيات روايته، التي استعملت أجسادها لتحقيق غاياتها. إلى أيّ حدّ هذا الإنطباع صحيح؟
ـ ظــاهريا، قد يتـرسـّـب هذا الانطباع لدى القارئ؛ لكنـنـا إذا انتبهنا إلى تـعـدّد العلائق بالجسد والجنس عند كل شخصية في الرواية، وإلى أن كل جسد يوجد «داخل موقف»، سنجــد أن الجسد و«الروح» معا محكومان بتلك القوى المعقدة الكامنة في كل إنسان، والتي تتجلى عـبـر شروط التحقق المـُـتاحة. هذا ما يجعل «كريم» وأصحابه في السهرة الماجنة يعبرون عن مفهوم مُـتـْـعـوي، وقتيّ، يقـلد ممارسات دارجة في مجتمعات «كونية» تريد أن تـؤثـث فترات اللهـو بتسلية غرائبية لتنـفـّس عن قلقها وتـتنــاسى ضغط الصفقات المحموم، وتختـلس ما يمنحها قــوة مـُـتــوَهـّــمـَـة.
يخيل إليّ أن روايتي تصدر عن جدلية متراسلة بين الجسد في وصفه جســرا واصلا بالحياة، والجسد الذي يغدو وسيلة لتحقيق ما يـتـيح له الاستمرار في الحياة ولـو من دون شروط لائــقة، لأن حرية الاختيار انتـفـتْ وأصبحت الشخصيات خاضعة للضرورة... وأنا أكتب الرواية، أحسستُ أن نعيمة قـررتْ أن تختار المتاجــرة في المخدرات لأن «حريتها» أصبحت مهددة بعد أن فقدتْ امتيازاتها السابقة. من ثـمّ لم تـتردد في ركوب مغامرة خطيرة لحماية تصورها للحرية، وهذا الاختيار قادها إلى اكتشاف مناطق مجتمعية ظلتْ محجوبة عنها بحـكم نــسـق «الـجـُـزر» الذي يفصل فئات المجتمع .

روايتك على لسان أبطالها، ولسان»السارد ـ المسرود له» بحسب تعبيرك، تحدث في زمن ملتبس، متأخر عن زمن حدوث مجرياتها، وتطّل على مخزون ذاكرات شخصيات ثلاث رئيسية. هل تعدّد السرد والساردين هو محاولتك لإقناع القارئ بصدقية الرواية وواقعيتها، أو هي اللعبة الفنية هنا؟
ـ أظن أن كل رواية لا يمكن أن «تحدث» وأن تتحـقـق نـصـيا إلا في زمـن تالٍ لسيرورتها على مستوى المتخـيـل الذي يؤشـر على الماضي قياسا إلى حاضـر زمن الكتابة. حتى ما يـسمى روايات الخيال العلمي المستشرفة للمستقبل، تُـكتب في ماض يسبق مستقبل الرواية المحتمــل.
في ما يتصل بالتـباس زمن روايتي، أظنه راجعا إلى أن التخــيــيـل يـُـسـربلُ كل أزمنته بالالتباس لأنه لا يتقـيد بالزمن الكرونولجي ولا بالتدقيقات التاريخية؛ وهذا ما يمنح التخيـيــل سلطة لا يتوفـر عليها الزمن التعاقبي المـعـيش. والشخصيات التي تزعم أنها تحكي عن حياتها إنما هي تمتـح من عالم الخيال؛ وكما قيل، كل حقيقة بـمـُجرد كتابتها تـصيـر تخـيـيــلا. لأجل ذلك أنا لا أسعى إلى إقناع القارئ بصدقية روايتي، على العكس أحرص على جــرّه إلى فسحة التخيــيـل التي تضفي على النص صدقية أقوى لأنها مستقلة عن مرجعيتها. هذا لا يعني أن شخوص روايتي لا تستـعـيـر بعض ملامحها من بـشــَـر عايشتهم في فترات متباينة. ذلك أن تشيـيـد المتخيـل الروائي يلتقط الهوية المجتمعية من اختلاف النماذج ومن الشخصيات «الواقعية» التي تـطـفـو على السطح مكـلـلة بالتكريس الرمزي، ومقترنة بخـطاب يصـبّ في مستودع إنتـاج الإيديولوجيا.
بالنسبة لتعدد منظورات السرد والساردين، هو عنصر يندرج، كما قلتُ، في استراتيجية كتابة النص أولا، وهو أيضا جزء بارز في الصـــوْغ الفني. وأظـن أن من العناصر التي تـُــكـسـب الروايـــــــــــة خصوصـيتـها، عـنـصـريْ تعدد الأصوات الساردة وتعدد مستويات اللغة، وذلك لجعل الأحداث و«الحقائــق» والآراء نــسبية، تصل إلى القارئ وهي في حالة جدلية تـنـذر بانقلاب الأوضاع. لا أقـتـنع بالروايات التي تخلو من تعدد السرد وتعدد اللغة، لأن هذا الغياب يـُـبعدني عن «نثـرية» الرواية، ويـُـحـرمـُها من أن تكون تجربة لغوية مغايرة لتجربة الشاعر، بقدر ما هي في الآن نفسه تساؤلات عن العالم والحقيقة والكينونة في زمن الهشاشة المتعاظمة...
اللغة .

في روايتك فصل كامل لإحدى شخصيات الرواية «ولد هنية» مسرود بالمحكية المغربية أو العاميّة، وجدت معها كقارئة صعوبة بالغة في فهم السرد في هذا الفصل، الأمر الذي لا يُعيقني مع العامية المصرية لأسباب باتت معروفة. لماذا اختيار المحكية المغربية وروايتك تتوّجه لقارئ عربي لم يتعوّد على المغربي المحكي وليس له تاريخ معه؟
ـ أعـتـبـر الفصحى والعاميات على درجة كبيرة من القرابة ولذلك فإن التفاعل بينهما، وهو ما نلاحظه في مجرى الحياة، يـُـنتج إثــراء ويوســع إهــابَ كل من اللغة الفصحى والعامية. وتوظيف العامية عندي مرتبط بالمستوى الثقافي والاجتماعي للمتكلم داخل الرواية لأن اللغة تكشف عن مستوى الشخصية وعن طريقة التفكير. وأنا، كما قلت سابقا، أعتبر اللغة الحجـر الأساس في الرواية في وصفها لبـنـة لتجسيد التعدد اللغوي داخل اللغة الواحدة، والمـُـشيـدة للحــواريـة التي يقوم عليها النــثـر الروائي بالمعنى الذي حـدده ميخائيل باختيــن؛ أي التقاط الأسئلة الكامنة وراء كلام المتحـدثـين وربطها بأجوبة متعارضة بين المتحاورين أو بين الواحد ونفسه، على أساس أن المتكلـم في الرواية هو دائما «مـُـنتـج إيديولوجيا وكـلـماته هي عـيـّـنـة إيديولوجية». ولغة الكلام المغربية تـكتنـز دلالات وتحيل على فـكـر، ومن ثمّ يكون وجودها عنصرا مهما في «تـبـريــز» حـوارية اللغة والكلام، خاصة أن الرواية تقوم على تجاور شخصيات من طبقات ومنازل مختلفة. وعـليّ أن أقول انني عندما أكتب الرواية، أكتبها أساسا لجمهور قارئ مغربيّ يهمـه مثل ما يهمـنـي أن تكون العاميـة حاضـرة في الصوغ الأدبي والدلالي؛ وهذا لا يمنع القارئ العربي من بذل جهد لفهم العامية المغربية مثلما يبذل قراء عرب آخرون جهدا لفـهم عاميات بلدان عربية أخرى. فضلا عن ذلك، العامية في «حيوات متجاورة» هي جزء من تجربة لغوية أوسع، منها إعادة كتابة النص في شكل سينـاريو سينمائي ذي لــغة مـُقتصدة، وجـُـمـَل تراكـيـبهـا مقتضبة .